الجناح اللبناني في المعرض العالمي الستين للفن المعاصر – بينالي البندقية يقدم “رقصة من حكايتها”
عايدة حسيني
برعاية المرتضى، ممثلاً بألفا: “على رؤوس أناملنا ترقص الكلمة والريشة والازميل ومعنا تمتلئ الأمكنة وتتأنسن الأزمنة”
عقد اليوم مؤتمراً صحافياً في المتحف الوطني، بيروت بحضور وزير السياحة، وليد نصار، الكاتب والاعلامي عضو اللجنة الوطنية لليونسكو روني ألفا ممثلاً وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى، عدد من الشخصيات الثقافية والفنية، الاعلام وندى غندور، المفوّضة العامّة والقيّمة الفنيّة للجناح اللبناني في المعرض العالمي الستين للفن المعاصر – بينالي البندقية التي أعلنت عن موضوع الجناح اللبناني وعرضت تفاصيل المشروع.
برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، ومن تنظيم الجمعيّة اللبنانيّة للفنون البصريّة (Lebanese Visual Art Association – LVAA)، يقدم الجناح اللبناني في المعرض العالمي الستين للفن المعاصر – بينالي البندقية الذي سيقام من 20 نيسان حتى 24 تشرين الثاني 2024 تجهيز فنّي متعدد الوسائط للفنانة منيرة الصُّلح، يحمل عنوان “رقصة من حكايتها”.
وفي كلمته، ممثلاً وزير الثقافة قال ألفا: “قلما نرى وسائط فنية متعددة في خدمة الفكرة وهذا ما جمعته الصلح في بينالي البندقية الذي تحوّل من معرض يحاكي تاريخ صور والفينيقيين الى رحلة نضال تحرري يتحدى المجتمع الذكوري بغوايته ويستقل معه قارب فينيقيا ليتم تحرير المرأة والمدينة والوطن وسط سينوغرافيا تحمل الزائر الى الشاطئ اللازوردي في صور وتشعره انه على قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف الموركس.
وفي كلمتها، أشارت ندى غندور :”اليوم، تشهد المنطقة مأساة، ولكننا نؤمن بأن هذا الجناح سيكون بمثابة شهادة على روح الفن اللبناني الرّاسخة والمتفائلة والنّابضة بالحياة. ونحن نأملُ لهذه المشاركة بأن تعزّز مكانة لبنان على الساحة الفنية العالمية، وبأن تُعيد التأكيد على أهميّته كمركزٍ حيٍّ للإبداع والابتكار الفني”.
يدعو الجناح اللبناني الفنانة منيرة الصُّلح (بيروت، 1978) إلى فتحِ ممراتٍ بين الأسطورة والواقع داخل جدرانه ودهاليزه. يتألّف التجهيز الفني المتعدّد الوسائط والذي يحمل عنوان «رقصة من حكايتها»، من واحد وأربعين عملاً مكوّنة من رسومات ولوحات ومنحوتات وتطريز وفيديو. يشغلُ العمل فضاء الجناح اللبناني الذي تبلغ مساحته 180 متراً مربعاً داخل “الأرسنالي”.
من خلال إعادة تأمّل أسطورة اختطاف “أوروپا”، تعيدُ الفنانة النّظر في التطلعات والتحديات التي تواجهها النساء في يومنا الحالي. على القماش كما على الورق والشاشة، تجمع عمليتها الإبداعية بين السَّرد المجازي والنَّهج الوثائقي والاستملاك والتحويل، من خلال تمثيلات تتّسمُ بالواقعية والشّعريّة والمُعاصَرة.
المصادر في لبنان
تَرِثُ جميع شعوب العالم قصصاً مؤسِّسة أو نموذجيّة، ومن بينهم اللبنانيين الذين تعود بعض أساطيرهم إلى زمن أجدادهم الفينيقيين. تاريخ فينيقيا غير معروف بالكامل، فالشّعب الذي اخترع الأبجدية لم يترك لنا سوى القليل من الآثار المكتوبة. لكن، وعلى الرُّغم من ذلك، فإن مدن مثل جبيل وبيروت وصيدا وصور، تشهد بآثارها على ماضٍ بهيٍّ ومجيد. تُعَدُّ فينيقيا جزءاً من تواريخ القوى العظمى التي سيطرت عليها وحكمتها فيما بعد: يونان “الإسكندر الأكبر” ومن ثم الإمبراطورية الرومانية. نلحظُ أن الأساطير الفينيقية الشهيرة مثل إتّحاد “أدونيس” الصّوري بالإلهة “أفروديت”، وأسطورة “هرقل” وكلبه اللذان اكتشفا الموريكس على شاطئ صور، وأسطورة اختطاف الأميرة “أوروپا” في نفس المدينة، قد اندمجت بشكلٍ حرفيٍّ نوعاً ما في الأساطير اليونانية-الرومانية. إن هذا التراث الثقافي الذي يمتد لآلاف السنين والذي لا يزال حياً حتى اليوم، تشيدُ به أيضاً منيرة الصُّلح.
الأسطورة وتحديثها
إختارت منيرة الصُّلح استخدام الأسطورة للتعبير عن المصير المفروض على النساء وعن طواعيّتهنَّ، مثل الأميرة الفينيقية “أوروپا” التي قرّرت الفنانة إنقاذها من شِدّتِها. على مرّ القرون، غالباً ما خدم تفسير الأساطير حركات الاعتراض والاحتجاج والهَدم. تحضرُ جميع هذه الأبعاد في تجهيز «رقصة من حكايتها». تتمتع الأسطورة في جوهرها بسمةٍ أساسيّة تتمثّلُ في كونها خطابًا عامّاً وعالميّاً، مما يجعلها دائمة المُعاصَرة والقابلية لإعادة التفسير والاستملاك والتّدارس.
في الرواية القديمة، يظهر “زوس” على شاطئ مدينة صور ويتّخذ شكل ثورٍ أبيض لإغواء الأميرة الفينيقية الجميلة “أوروپا”. فيخدعها ويحملها على ظهره نحو شواطئ جزيرة “كريت” حيث يتّحدُ معها. في تجهيزها، تقوم الفنانة بربط الحاضر بالأسطورة بطريقة غير متوقعة، إذ تقترح قراءةً بديلة، بل وحتّى معكوسة، تفسح مجالاً للنّقض وللفكاهة. تساهمُ رحلة البحث عن “أوروپا”، والتي تدعونا الفنانة إلى المشاركة فيها، في صُنع مصيرٍ أنثويٍّ متحرّر من “الآلهة”؛ أي تولّي دور الرجال ومسؤوليتهم، إنما دون الخضوع لهم، كما والسّعي نحو حالة تكافؤ بين الجنسين.
تعبّرُ القصة القديمة التي نَظَمها وفَرَضَها رجال، عن الرّغبة في السيطرة على المرأة وإخضاعها. تذكّرنا رحلة “أوروپا” إلى جزيرة “كريت”، بداهةً، بغنائم الحرب التي أخذها الكريتيون من الفينيقيين. على مرّ القرون، وخاصة في الرَّسم الغربي، تتطوّر تصويرات الأسطورة من فعل الاختطاف إلى حالةٍ من الموافقة والرّضى. ولكن لطالما كانت وجهة النّظر الذكوريّة هي الحاضرة والمعروضة. أمّا هنا، تختار الفنانة إنشاء علاقة مساواة بين الجنسين وإعادة قراءة للأسطورة من خلال استبصار ووجهة نظر امرأةٍ حرّةٍ مستقلةٍ اليوم. تسعى الصُّلح إلى زعزعة توازن القوى بين الإله المسيطر والأميرة الخاضعة. هنا، تتعاون الأميرة “أوروپا” مع “زوس” وتتلاعب به. إنها هي التي تحمله وتمشي به على الماء، وهي التي تجعله يدور في الهواء بقدميها كالبالون. في بحثها، تسعى الفنانة إلى تفكيك الصور النمطية الجنسانية إلى أقصى الحدود، وذلك من خلال عكس الأدوار والأجناس، من بينها تحويل كلب “هرقل” إلى كلبةٍ أنثى.
التجهيز
يتمحور تجهيز «رقصة من حكايتها» حول قاربٍ يدعونا إلى رحلة رمزية للانعتاق والمساواة بين الجنسين. غير أن هيكل القارب غير المكتمل يشيرُ إلى أن هذه الرحلة لم تكتمل تماماً. يستقرُّ تجهيز منيرة الصُّلح في مسارٍ تنظمه علاقات القِوى. في وسط المعرض، نرى القارب في منتصف الطريق بين الأعمال التصويرية والرسومية التي تدعو إلى التشكيك في المعايير الجنسانية وإلى النضال من أجل المساواة من جهة، ومن جهةٍ أخرى الأقنعة التي تجسّدُ القوى المحافظة في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، تأخذُ الأجسام التي نراها في مساحة المعرض أدواراً في الفيلم (12 دقيقة) المعروض على شراع القارب.
تشكّلُ رسومات منيرة الصُّلح إطاراً لفكرة مركزية قامت بتطويرها في مجموعةٍ من اللوحات التي تتحدى الأيقونية التقليدية. تتبنّى الفنانة استراتيجيّة تعتمد على التّبديل والتّحويل والتَّمسيخ. في العمل، نرى العديد من الشّخوص النموذجيّة للثقافة والأسطورة الفينيقيّة تسكنُ، وبطريقةٍ فظّةٍ ومفاجئة ومهرّجة، عالماً يقع في الوسط بين الرّمز والواقع. لا ترتبطُ زمانيّة عمل «رقصة من حكايتها» بالأسطورة، بل هي زمانية الفنّانة في حوارها مع المشاهد هنا والآن.
وضع تصميم السينوغرافيا المهندس المعماري كريم بكداش دون أي تأهيلٍ أو تقسيم لمساحته، ممّا يسمح بالانغماس الكامل للجمهور داخل المعرض. يساهم في ذلك أيضاً التدرّج نحو أفق لا نهائي مطلي باللون الأزرق المُرَمَّد، وهو لون بحر مدينة صور وسمائها. هذا بالإضافة إلى عوّامةٍ خشبيّةٍ طويلةٍ ومتعرّجة تعبرُ الجناح من الطَّرَفِ إلى الطَّرف الآخر، وتربط اليابسة بالبحر. يتمُّ اللقاء بين الزائرون والأعمال الفنية طوال رحلتهم داخل الجناح.