المهمشون
بقلم د/ شيرين العدوي
كان واجبا علي أن أفي لقارئي بما وعدته بالحلقة الأخيرة من كتاب السيرة الذاتية للمستشار بهاء المري الذي احترف الأدب بجانب عمله القضائي. واستوقفني المهمشون في تلك السيرة ممن تمت محاكمتهم فكانوا الجناة الفاعلين، أوالطرف المجني عليه فيها. كان قلبي يزبد ويرغو أثناء القراءة وتمنيت أن أتدخل فأمنع السارق، أو أنبه المقتول. لقد أشرك الكاتب قارئه، فأصبحنا أمام القارئ المشارك لا السارد المشارك فقط؛ ورغم أن السارد فاعل يسرد بحرفية الراوي العليم فقد ذكرني بصوت الراوي الممثل لعدالة السماء في الأفلام المأخوذة عن الواقع، و السيرة هي الواقع المر للحياة؛ ولذلك ظهر الراوي بوضوح يحذر ويقيم المجتمع.
فلماذا أصر الكاتب على ذكر بعض القضايا في سيرته؟! فلقد أجاب ص 360 قائلا: لأنها جزء لا يتجزء من سيرتي، ولكنى عمدت إلى تدوينها جزءا من سيرة المجتمع، لما تشي به إلى ما صار إليه من انحدار خلقي ومسلكي لدى بعض الناس، ولا أقصد من سردها التعميم، وأن هذا ما صار إليه المجتمع برمته؛ ولكنها على قلتها، وبالنظر إلى قيمنا التى ربانا عليها أهلنا، توجب الإشارة، لندق من خلالها ناقوس الخطر”. واستوقفتني واقعتان وإن كانتا بعيدتين كل البعد عن بعضهما؛ لكن يجمعهما خيط مشترك وهو المهمشون.
الواقعة الأولى كانت لجارين في الريف المصري ادعى أحدهما على الآخر سرقة بطته إلا أن المحامي حاول أن ينفي عن موكله السرقة بادعائه أن البطة المذكورة في محضر القضية ما هي إلا ذكر استعاره موكله من أجل عملية التلقيح لبطاته، وأنه لم يقصد الانتفاع بمال الغير، وهنا طبقا للقانون تنتفي واقعة السرقة، ومع محاولة المحامي حسن التخلص فإن القاضي حكم عليه حضوريا بستة أشهر؛ وذلك لأن السارق قد اعترف في النيابة معللا ذلك بأنه كان في حاجة ماسة إلى المال، فسرق البطة وباعها لينتفع بمالها ولا صحة لما قاله المحامي في دفاعه. وأتساءل: أين ما جبلنا عليه من قول الرسول الكريم عن أنس بن مالك: ” ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به”؛ بل أين التراحم والتواد اللذان اشتهرا بهما أبناء الريف المصري فضلا عن حسن الجوار؟!.
أما عن الواقعة الثانية فكانت عن كهربائي شهد له الجميع بالتميز في مجال عمله، وكان يحب زوجه حبا شديدا، لكنها تجبرت عليه وأخذت تؤذيه حتى كان اليوم الذي تطاولت عليه إلى حد ضربه بالحذاء فلم تتحمل كرامته فقتلها، وكان كل جار له في مسكنه يمتلك برميلا على السطح يضع فيه المهمل من الأشياء كنوع من تجميل الأسطح، فتفتق ذهنه عن وضع الجثة في برميل ، وإغراقها بالملح حتى لا تخرج رائحتها، وقفله بخرسانة، ووضعها على سطح المنزل، وادعى أن زوجته خرجت ولم تعد؛ ورغم إحساس حماته بما حدث لابنتها فكانت تترحم عليها دون أن تعرف إلا أنها كانت تصدقه .
وعند التحقيقات بعدما كشفه ماتش الزمالك والأهلي الذي يعتبر حدثا لدى المهمشين لإحساسهم بذاتهم المتحققة في الفريق المنتصر، فقد حدث يومها أن انقلب البرميل إثر صعود أحد الجيران لضبط إريال التليفزيون فتعثر وسقط البرميل الذي به الجثة وملأت رائحته المكان حتى أبلغ الجيران الشرطة. وخلال التحقيقات . أقر الرجل بالواقعة ولكن حماته المكلومة على ابنتها أنصفته، واتهمت ابنتها المتوفاه بالوحشية في حق الرجل، وأنها قد طلبت منه تطليقها أكثر من مرة لمعاملتها السيئة له، لكنه أصر على البقاء معها ، وحتى بعد قتلها انتقل للعيش مع حماته وتربية أبنائه ولم يتزوج بعدها من شدة حبه لها.
إن المهمشين يجدون فرحهم في أي شئ بسيط يثبت فرحهم كماتش الأهلي والزمالك حيث يعتبرونه يوما قوميا، يأملون في السعادة وتجميل ما حولهم ولو بأبسط الأشياء كتجميل الأسطح بالبراميل التي اعتبروها وجاهة اجتماعية للدلالة على التحضر والرقي. لو قارنا الموقفين لعلمنا أن المهمشين طبقات تعاني بشدة إذا غاب الضمير واندثر ، وتُنصَف إذا ما حضر.